يرى الفيلسوف الألماني "هيجل" أن الانشقاقات والانكسارات والتحولات الكبرى، التي تمثلت في الانتقال من العصور الوسطى في أوروبا إلى العصور الحديثة، قد ولّدت قلقا ذهنيا يعتبر هو "مصدر الحاجة إلى الفلسفة". والحال أن هذا القلق الذهني وإن كان ولا يزال رفيقا للإنسان وجزءاً أساسيا في تجربة حياته إلا أن هذا القلق يشتد ويتعمق ويكون أكثر إلحاحا وتحفيزا وجرأة في لحظات تاريخية محددة تكون التجربة البشرية فيها تشهد تحولا هائلا ومهما. يستشهد هيجل بفترته الزمانية، فترة التنوير والخروج من ظلام القرون الوسطى. ولنا هنا أن نفحص فترتنا التاريخية لنكتشف أن الثقافة العربية والإسلامية تشهد تأزما حادا وانكسارا هائلا وإعلانا صريحا بالإفلاس يفترض أن يولّد القلق الذهني الكفيل بتحريك التفكير الفلسفي.
المشكلة العميقة في ثقافتنا هذه أن مصادر المعرفة التي يستقي منها الناس عادة معارفهم لا تحتوي مصدر العقل بمعناه الواسع والشامل والفاعل. ولذا فإن الجواب العقلي الفلسفي يبقى هامشيا وثانويا في مقابل الإجابات المتداولة عبر الزمن والتي أصبحت بسبب حفظها وتعليبها عن القراءة العقلية، منفصلة عن الواقع كما هو مما جعلها ترسخ وتزيد من المشكلة باستمرار.
يفترض بالقلق الذهني العربي أن يكون في أوجه الآن فالأسئلة المصيرية والوجودية المطروحة على العقل العربي الآن على درجة مريعة من العمق والإثارة، فالإنسان العربي اليوم يعيش حالة مأساوية فهو هامشي جدا في منظومة الإنتاج العالمي بكافة أشكالها الفكرية والمادية. بل إنه يبدو اليوم معيقا للحضارة البشرية وسببا في عرقلة حركتها. التخلف والتطرف والفساد تنخر الجسد العربي اليوم وتجعل من حالته الأكثر خطرا بين المجتمعات العالمية. الحالة الأخلاقية في الساحة العربية تطرح أسئلتها الأساسية أيضا. المستقبل يأتي دون أن يخطط له أحد. التعليم في البلاد العربية والإسلامية يبدو تجهيلا أكثر من كونه تعليما حقيقيا. معدلات الأمية ترتفع. الأحوال الاقتصادية والسياسية والاجتماعية تبدو مأزومة جدا وتنذر بالكثير من الخطر.
في هذه الظروف يفترض بالمعرفة الفلسفية أن تشارك مشاركة أساسية في صياغة وعي الناس للواقع الذي يعيشونه ولذواتهم التي تشكلت داخل فعل هذا الواقع. المعرفة الفلسفية هنا متميّزة عن المعارف الأخرى. فهي بالأساس معرفة نقدية قادرة على التوجه للمشاكل مباشرة وهذا علاج لحالة المكابرة المرضية التي تعانيها الثقافة العربية فعلى ما يبدو عليه الواقع من سوء إلا أن الوعي العام لم يدرك حقيقة هذا الوضع ومدى خطورته. الأجواء العربية مليئة بالكثير من خطابات التطبيل والتزييف عالية الصوت وراسخة القدم ولن يجعل هذه الخطابات تفقد فاعليتها سوى توفر حس نقدي متقدم يمكنه من فحص الحجج والآراء وهذا غير متوفر في ظل غياب المعرفة الفلسفية التي هي معرفة نقدية بالدرجة الأولى.
من جهة أخرى تمتاز المعرفة الفلسفية بأنها معرفة جذرية، فالتفكير الفلسفي يتوجه لعمق المشاكل وأصولها الأولى من خلال الفحص المستمر والتساؤل المتواصل النهم الشغوف الذي يستطيع معه الإنسان تجاوز ظواهر الأشياء ليتعمق إلى مستويات أكثر تغلغلا مواجها بالتأكيد صعوبات أكبر كون المشكلات الجذرية أكثر رسوخا وحساسية وتحيط بها الكثير من الحصون الشديدة. هذه الميزة في المعرفة الفلسفية تبدو كعلاج لخطابات التسطيح السائدة التي لا تستطيع تجاوز قشور المشاكل وتمارس تعمية هائلة حين تصرف الأنظار عن القضايا الأساسية لتشغل الجميع في ظواهر القضايا التي لن يحقق إصلاحها، إن تحقق، حلا للمشكلة الأساسية.
المعرفة الفلسفية أيضا معرفة شمولية تسعى باستمرار لتصور القضايا بكل مظاهرها وأبعادها وهذا مهم جدا في الحالة العربية لأن مشكلة التخلف المتجذرة هي مشكلة شمولية تصل إلى كل مناحي الحياة والفكر وهذا البعد يمكن أن يحل إشكال التزييف الأيديولوجي الذي يحاول باستمرار قصر مشاكل التخلف والتردي في بعد واحد مبعدا بذلك جانبا أو أكثر يمثل له هوية أو كيانا يحاول باستمرار إبعاد النقد والتفكير عنه في خوف طفولي من الضياع وفقد الهوية. التفكير الفلسفي بحكم انفتاحه على كل المنافذ والأسئلة ورفضه المبدئي لأي " تابوهات " أو مناطق محرمة على السؤال فإنه يصل بتساؤله لكل المناطق ويكشف كل شيء وهذا مهم في بيئة اعتادت على الإخفاء والتستر، اعتادت على قمع السؤال والوقوف في وجهه. المعرفة الفلسفية قائمة على ضرورة خلق الأسئلة قبل الحصول على الأجوبة. وأن تكون الأجوبة مباشرة موضوعا للتساؤل وهكذا باستمرار دون توقف. هذا تحد كبير لجمود الإجابات الذي يحيط بنا، إجابات القرون الماضية سواء في أشكالها الماضوية أو في أشكالها المحدثة لا فرق.
النقد والجذرية والشمولية سمات لفكر التغيير، الفكر المتوجه لنفي الواقع، للتشاكل معه، لمنازعته باستمرار من أجل الخروج عليه عن طريق تأسيس مستمر وعميق لوعي تجاه الواقع وتجاه المستقبل. هذا الوعي لا يزال محدودا في البيئة العربية التي تضربها يوميا خطابات التزييف من كل جهة ولا شيء أخطر على الواقع من الوعي الزائف. الواقع بشكله الحقيقي شديد التعبير والتأثير لكن الوصول إلى شكله الذي هو عليه يستلزم أولا كشف الوجه المزيف ونزعه. هذا الكشف لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال خطاب حر وجذري وشامل ونقدي كالخطاب الفلسفي.
إذن تبدو الحاجة إلى الفلسفة اليوم أشد من أي وقت آخر. هذه الحاجة مرتبطة طرديا بالأسئلة التي تواجه الفكر والعقل. كلما كبرت هذه الأسئلة وتعملقت ووصلت إلى مناطق العمق والأساسات زادت الحاجة إلى الفلسفة بوصفها الفكر القادر على مواجهة الأسئلة الكبرى من نوع أسئلة الواقع العربي الإسلامي اليوم.